فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

سورة الطارق:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{وَالسماء وَالطَّارِقِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ} أي: المضيء كأنه يثقب ظلمة الليل وينفذ فيه، فيبصر بنوره ويهتدي به. وسمي طارقاً لأنه يطرق ليلاً أي: يبدو فيه.
قال الشهاب: {الطارق} من الطرق، وأصل معناه الضرب بوقع وشدةٍ يسمع لها صوت، ومنه المطرقة والطريق؛ لأن السابلة تطرقها، ثم صار في عرف اللغة اسماً لسالك الطريق، لتصور أنه يطرقها بقدمه، واشتهر فيه حتى صار حقيقة. وتسمية الآتي ليلاً طارقاً؛ لأنه في الأكثر يجد الأبواب مغلقة فيطرقها.
والتعريف في {النَّجْمُ} للجنس. وأصل معنى الثقب الخرق؛ فـ: {الثاقب} الخارق، ثم صار بمعنى المضيء، لتصور أنه ثقب الظلام أو الفلك. وفي إبهامه ثم تفسيره تفخيم لشأنه وتنبيه على الاعتبار والاستدلال به.
{إن كل نفس لما عليها حافظ} أي: مهيمن عليها رقيب، وهو الله تعالى، كما في آية:
{وَكَانَ اللَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً} [الأحزاب: 52]، فيحصي عليها ما تكسب من خير أو شر، وقد قرئ: {لما} بالتخفيف، فـ: {إن} مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن و{كُلُّ نَفْسٍ} مبتدأ و{عليها حافظ} خبره. وما صلة واللام هي الفارقة. وقرئ: {لما} بالتشديد على أنها بمعنى إلا الاستثنائية، و{إِن كُلُّ} نافية والخبر محذوف، أي: ما كل نفس كائنة في حال من الأحوال، إلا في حال أن يكون عليها حافظ ورقيب و{كُلُّ} على هذا مؤكدة؛ لأن {نَّفْسَ} حينئذ نكرة في سياق النفي، فتعم.
قال ابن جرير: والقراءة التي لا أختار غيرها في ذلك التخفيف؛ لأن ذلك هو الكلام المعروف من كلام العرب، وقد أنكر التشديد جماعة من أهل المعرفة بكلام العرب، غير أن الفَرَّاء كان يرى أنها لغة في هُذيل، يجعلون إلا مع إن المخففة لمّا، فإن كان صحيحاً ما ذكر الفراء فالقراءة بها جائزة صحيحة، وإن كان الاختيار مع ذلك قراءة التخفيف؛ لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب، ولا ينبغي أن يترك الأعرف إلى الأنكر. انتهى.
وقد صحح غير واحد ثبوتها، وبها قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة، واستشهد ابن هشام لها في (المغني) فراجعه.
{فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مم خلق خلق مِن مَّاء دَافِقٍ}
جواب لمقدر. والفاء فصيحة أي: إن ارتاب مرتاب في كل نفس من الأنفس عليها رقيب، فلينظر إلخ.
قال الإمام: قوله: {فَلْيَنظُرِ الْإِنْسَاْن} بمنزلة الدليل على الدعوى المقسم عليها، زيادة في التأكيد، ووجه ذلك أن الماء الدافق من المائع الذي لا تصوير فيه ولا تقدير للآلات التي يظهر فيها عمل الحياة كالأعضاء ونحوها، ثم إن هذا السائل ينشأ خلقاً كاملاً كالْإِنْسَاْن مملوءاً بالحياة والعقل والإدراك، قادراً على القيام بخلافته في الأرض؛ فهذا التصوير والتقدير وإنشاء الأعضاء والآلات البدنية، وإيداع كل عضو من القوة ما به يتمكن من تأدية عمله في البدن، ثم منح قوة الإدراك والعقل، كل هذا لا يمكن أن يكون بدون حافظ يراقب ذلك كله ويدبره، وهو الله جل شأنه. ويجوز أن يكون قوله: {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مم خُلِقَ} من قبيل التفريع على ما ثبت في القضية الأولى، كأنه يقول: فإذا عرفت أن كل نفس عليها رقيب، فمن الواجب على الْإِنْسَاْن أن لا يهمل نفسه، وأن يتفكر في خلقه، وكيف كان ابتداء نشيءه ليصل بذلك إلى أن الذي أنشأه أول مرة قادر على أن يعيده؛ فيأخذ نفسه بصالح الأعمال والأخلاق، ويعدل بها عن سبل الشر؛ فإن عين الرقيب لا تغفل عنها في حال من الأحوال. انتهى.
و{دَافِقٍ} من الدفق، وهو صبٌّ فيه دفع. وقد قيل: إنه بمعنى مدفوق، وإن اسم الفاعل بمعنى المغعول. كما أن المفعول يكون بمعنى الفاعل ك: {حِجَاباً مَّسْتُوراً} [الإسراء: 45].
والصحيح أنه بمعنى النسبة ك: لابن وتامِر، أي: ذي دفق، وهو صادق على الفاعل والمفعول. أو هو مجاز في الإسناد، فأسند إلى الماء ما لصاحبه مبالغة. أو هو استعارة مكنية أو مصرحة بجعله دافقاً؛ لأنه لتتابع قطراته كأنه يدفق بعضه بعضاً، أي: يدفعه. أو دافق بمعنى منصب من غير تأويل، كما نقل عن الليث، أقوال.
وقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب وَالتَّرَائِبِ} أي: من بين صلب الرجل ونحر المرأة.
قال الإمام: {الصلب} هو كل عظم من الظهر فيه فَقار، ويعبر عنهُ في كلام العامة بسلسلة الظهر. وقد يطلق بمعنى الظهر نفسه إطلاقاً لاسم الجزء على الكل. و{التَّرَائِبِ} موضع القلادة من الصدر، وكنى بـ: {الصلب} عن الرجل وبـ: {الترائب} عن المرأة، أي: أن ذلك الماء الدافق إنما يكون مادة لخلق الْإِنْسَاْن إذا خرج من بين الرجل والمرأة ووقع في المحل الذي جرت عادة الله أن يخلقه فيه، وهو رحم المرأة؛ فقوله: {يَخْرُجُ} إلخ وصف لابد من ذكره لبيان أن الْإِنْسَاْن إنما خلق من الماء الدافق المستوفي شرائط صحة الخلق منهُ.
وقال بعض علماء الطب: {الترائب} جمع تربية وهي عظام الصدر في الذكر والأنثى، ويغلب استعمالها في موضع القلادة من الأنثى، ومنها قول امرئ القيس:
ترائُبها مَصْقولة كالسَّجَنْجَل

قال: ومعنى الآية أن المني باعتبار أصله وهو الدم، يخرج من شيء ممتد بين {الصلب}- أي: فقرات الظهر في الرجل- و{الترائب} أي: عظام صدره، وذلك الشيء الممتد بينهما هو الأبهر الأورطي، وهو أكبر شريان في الجسم يخرج من القلب خلف {الترائب} ويمتد إلى آخر {الصلب} تقريباً، ومنه تخرج عدة شرايين عظيمة، ومنها شريانان طويلان يخرجان منه بعد شرياني الكليتين، وينزلان إلى أسفل البطن حتى يصلا إلى الخصيتين، أو الشريانين المنويين فلذا قال تعالى عن المني {يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب وَالتَّرَائِبِ} لأنه يخرج من مكان بينهما وهو الأورطي أو الأبهر. وهذه الآية على هذا التفسير تعتبر من معجزات القرآن العلمية وهذا القول أوجه وأدق من التفسير الأول. انتهى.
وقوله تعالى: {إنه} أي: الحافظ سبحانه، المتقدم في قوله: {لما عليها حافظ} أو الخالق المفهوم من خلق {على رجعه لَقَادِرٌ} أي: رجع الْإِنْسَاْن وإعادته في النشأة الثانية لقادر كما قدر على إبدائه في النشأة الأولى.
{يوم تبلى السَّرَائِرُ} أي: تظهر وتعرف خفيات الضمائر.
قال الزمخشري: {السرائر} ما أسرّ في القلوب من العقائد والنيات وغيرها، وما أخفى من الأعمال. وبلاؤها تعرّفها وتصفّحها، والتمييز بين ما طاب منها وما خبث.
{فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ} أي: من قوة يمتنع من عذاب الله وأليم نكاله. {ولا ناصر} ينصرهُ فيستنقذه ممن ناله بمكروه، يعني أنه فقد ما كان يعهدهُ في الدنيا إذ يرجع إلى قوة بنفسه أو بعشيرته، يمتنع منهم ممن أرادهُ بسوء. و{ناصر} حليف ينصره على من ظلمه واضطهده. ولم يبق له إلا انتظار الجزاء على ما قدم.
{وَالسماء ذَاتِ الرَّجْعِ} أي: المطر؛ يسمى رجعاً لأنه تعالى يرجعه وقتاً فوقتاً إلى العباد، ولولاه لهلكوا وهلكت مواشيهم.
{وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} أي: النبات؛ لأنه يصدع الأرض، أي: يشقها، أي: الانشقاق بالنبات، فهو علم أو مصدر.
{إنه} أي: القرآن الكريم {لَقول فَصْلٌ} أي: حق فرق بين الحق والباطل {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} أي: بالكلام الذي ليس له أصل في الفطرة ولا معنى في القلب، بل هو جدّ الجدّ.
{إِنَّهُمْ} أي: المكذبين به، الجأحدين لحقه {يكيدون كَيْداً} أي: يمكرون مكراً لإبطال أمر الله وإطفاء نوره.
{وَأَكِيدُ كَيْداً} قال ابن جرير: أي: وأمكر مكراً. ومكرُه جل ثناؤه بهم إملاؤهُ إياهم على معصيتهم وكفرهم به. يعني أن الكيد هنا استعارة تبعية أو تمثيلية، بتشبيه إمهال الله لهم ليستدرجهم بالكيد، وبهذا يظهر تفريع أمره بإمهالهم في قوله: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ} أي: لا تستعجل عقابهم.
وقوله: {أَمْهِلْهُمْ} بمعنى: مهلهم، فهو بدل منه للتأكيد. أو تكرير بلفظ آخر للتأكيد. وقوله: {رُوَيْداً} أي: قليلاً.
قال الإمام: وفي ذلك وعيد شديد لهم بأن ما يصيبهم قريب، سواء كان في الحياة الدنيا أو فيما بعد الموت. ثم فيه الوعد للنبيّ صلى الله عليه وسلم بل لكل داعٍ إلى الحق الذي جاء به، أنه سيبلغ من النجاح ما يستحقه عمله، وأن المناوئين له هم الخاسرون. اهـ.

.قال سيد قطب:

سورة الطارق:
الدرس الأول: 1- 4 القسم بالطارق على الحافظ على النفس:
{والسماء والطارق وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب إن كل نفس لما عليها حافظ}..
هذا القسم يتضمن مشهدا كونيا وحقيقة إيمآنية. وهو يبدأ بذكر السماء والطارق ويثني بالاستفهام المعهود في التعبير القرآني: {وما أدراك ما الطارق}.. وكأنه أمر وراء الإدراك والعلم. ثم يحدده ويبينه بشكله وصورته: {النجم الثاقب} الذي يثقب الظلام بشعاعه النافذ. وهذا الوصف ينطبق على جنس النجم. ولا سبيل إلى تحديد نجم بذاته من هذا النص، ولا ضرورة لهذا التحديد. بل إن الإطلاق أولى. ليكون المعنى: والسماء ونجومها الثاقبة للظلام، النافذة من هذا الحجاب الذي يستر الأشياء. ويكون لهذه الإشارة إيحاؤها حول حقائق السورة وحول مشاهدها الأخرى.. كما سيأتي..
يقسم بالسماء ونجمها الثاقب: أن كل نفس عليها من أمر الله رقيب: {إن كل نفس لما عليها حافظ}.. وفي التعبير بصيغته هذه معنى التوكيد الشديد.. ما من نفس إلا عليها حافظ. يراقبها، ويحصي عليها، ويحفظ عنها، وهو موكل بها بأمر الله. ويعين النفس لأنها مستودع الأسرار والأفكار. وهي التي يناط بها العمل والجزاء.
ليست هنالك فوضى إذن ولا هيصة! والناس ليسوا مطلقين في الأرض هكذا بلا حارس. ولا مهملين في شعابها بلا حافظ، ولا متروكين يفعلون كيف شاءوا بلا رقيب. إنما هو الإحصاء الدقيق المباشر، والحساب المبني على هذا الإحصاء الدقيق المباشر.
ويلقي النص إيحاءه الرهيب حيث تحس النفس أنها ليست أبدا ي خلوة- وإن خلت- فهناك الحافظ الرقيب عليها حين تنفرد من كل رقيب، وتتخفي عن كل عين، وتأمن من كل طارق. هنالك الحافظ الذي يشق كل غطاء وينفذ إلى كل مستور. كما يطرق النجم الثاقب حجاب الليل الساتر.. وصنعة الله واحدة متناسقة في الأنفس وفي الآفاق.
الدرس الثاني: 5- 7 خلق الإنسان من الماء الدافق:
ويخلص من هذه اللمسة التي تصل النفس بالكون، إلى لمسة أخرى تؤكد حقيقة التقدير والتدبير، التي أقسم عليها بالسماء والطارق. فهذه نشأة الإنسان الأولى تدل على هذه الحقيقة؛ وتوحي بأن الإنسان ليس متروكا سدى، ولا مهملا ضياعا: {فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب}..
فلينظر الإنسان من أي شيء خلق وإلى أي شيء صار.. إنه خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب، خلق من هذا الماء الذي يجتمع من صلب الرجل وهو عظام ظهره الفقارية ومن ترائب المرأة وهي عظام صدرها العلوية.. ولقد كان هذا سرا مكنونا في علم الله لا يعلمه البشر. حتى كان نصف القرن الأخير حيث اطلع العلم الحديث على هذه الحقيقة بطريقته؛ وعرف أنه في عظام الظهر الفقارية يتكون ماء الرجل، وفي عظام الصدر العلوية يتكون ماء المرأة. حيث يلتقيان في قرار مكين فينشأ منهما الإنسان!
والمسافة الهائلة بين المنشأ والمصير.. بين الماء الدافق الذي يخرج من بين الصلب والترائب وبين الإنسان المدرك العاقل المعقد التركيب العضوي والعصبي والعقلي والنفسي.. هذه المسافة الهائلة التي يعبرها الماء الدافقالى الإنسان الناطق توحي بأن هنالك يدا خارج ذات الإنسان هي التي تدفع بهذا الشيء المائع الذي لا قوام له ولا إرادة ولا قدرة، في طريق الرحلة الطويلة العجيبة الهائلة، حتى تنتهي به إلى هذه النهاية الماثلة. وتشي بأن هنالك حافظا من أمر الله يرعى هذه النطفة المجردة من الشكل والعقل، ومن الإرادة والقدرة، في رحلتها الطويلة العجيبة. وهي تحوي من العجائب أضعاف ما يعرض للإنسان من العجائب من مولده إلى مماته!
هذه الخلية الواحدة الملقحة لا تكاد ترى بالمجهر، إذ أن هنالك ملايين منها في الدفقة الواحدة.. هذه الخليقة التي لا قوام لها ولا عقل ولا قدرة ولا إرادة، تبدأ في الحال بمجرد استقرارها في الرحم في عملية بحث عن الغذاء. حيث تزودها اليد الحافظة بخاصية أكالة تحول بها جدار الرحم حولها إلى بركة من الدم السائل المعد للغذاء الطازج! وبمجرد اطمئنانها على غذائها تبدأ في عملية جديدة. عملية انقسام مستمرة تنشأ عنها خلايا.. وتعرف هذه الخليقة الساذجة التي لا قوام لها ولا عقل ولا قدرة ولا إرادة.. تعرف ماذا هي فاعلة وماذا هي تريد.. حيث تزودها اليد الحافظة بالهدى والمعرفة والقدرة والإرادة التي تعرف بها الطريق! إنها مكلفة أن تخصص كل مجموعة من هذه الخلايا الجديدة لبناء ركن من أركان هذه العمارة الهائلة.. عمارة الجسم الإنساني.. فهذه المجموعة تنطلق لتنشئ الهيكل العظمي. وهذه المجموعة تنطلق لتنشئ الجهاز العضلي. وهذه المجموعة تنطلق لتنشئ الجهاز العصبي. وهذه المجموعة تنطلق لتنشئ الجهاز اللمفاوي.. إلى آخر هذه الأركان الأساسية في العمارة الإنسانية!.. ولكن العمل ليس بمثل هذه البساطة.. إن هنالك تخصصا أدق. فكل عظم من العظام. وكل عضلة من العضلات. وكل عصب من الأعصاب.. لا يشبه الآخر. لأن العمارة دقيقة الصنع، عجيبة التكوين، متنوعة الوظائف... ومن ثم تتعلم كل مجموعة من الخلايا المنطلقة لبناء ركن من العمارة، أن تتفرق طوائف متخصصة، تقوم كل طائفة منها بنوع معين من العمل في الركن المخصص لها من العمارة الكبيرة!.. إن كل خلية صغيرة تنطلق وهي تعرف طريقها. تعرف إلى أين هي ذاهبة، وماذا هو مطلوب منها! ولا تخطئ واحدة منها طريقها في هذه المتاهة الهائلة. فالخلايا المكلفة أن تصنع العين تعرف أن العين ينبغي أن تكون في الوجه، ولا يجوز أبدا أن تكون في البطن أو القدم أو الذراع. مع أن كل موضع من هذه المواضع يمكن أن تنمو فيه عين. ولو أخذت الخلية الأولى المكلفة بصنع العين وزرعت في أي من هذه المواضع لصنعت عينا هنالك! ولكنها هي بذاتها حين تنطلق لا تذهب إلا للمكان المخصص للعين في هذا الجهاز الإنساني المعقد.. فمن ترى قال لها: إن هذا الجهاز يحتاج إلى عين في هذا المكان دون سواه؟ إنه الله. إنه الحافظ الأعلى الذي يرعاها ويوجهها ويهديها إلى طريقها في المتاهة التي لا هادي فيها إلا الله!
وكل تلك الخلايا فرادى ومجتمعة تعمل في نطاق ترسمه لها مجموعة معينة من الوحدات كامنة فيها. هي وحدات الوراثة، الحافظة لسجل النوع ولخصائص الأجداد. فخلية العين وهي تنقسم وتتكاثر لكي تكون العين، تحاول أن تحافظ في أثناء العمل على شكل معين للعين وخصائص محددة تجعلها عين إنسان لا عين أي حيوان آخر. وإنسان لأجداده شكل معين للعين وخصائص معينة.. وأقل انحراف في تصميم هذه العين من ناحية الشكل أو ناحية الخصائص يحيد بها عن الخط المرسوم. فمن ذا الذي أودعها هذه القدرة؟ وعلمها ذلك التعليم؟ وهي الخلية الساذجة التي لا عقل لها ولا إدراك، ولا إرادة لها ولا قوة؟ إنه الله. علمها ما يعجز الإنسان كله عن تصميمه لو وكل إليه تصميم عين أو جزء من عين. بينما خلية واحدة منه أو عدة خلايا ساذجة، تقوم بهذا العمل العظيم!
ووراء هذه اللمحة الخاطفة عن صور الرحلة الطويلة العجيبة بين الماء الدافق والإنسان الناطق، حشود لا تحصى من العجائب والغرائب، في خصائص الأجهزة والأعضاء، لا نملك تقصيها في هذه الظلال.. تشهد كلها بالتقدير والتدبير. وتشي باليد الحافظة الهادية المعينة. وتؤكد الحقيقة الأولى التي أقسم عليها بالسماء والطارق. كما تمهد للحقيقة التالية. حقيقة النشأة الآخرة التي لا يصدقها المشركون، المخاطبون أول مرة بهذه السورة..
الدرس الثالث: 8- 10 الله يبعث الإنسان يوم القيامة:
{إنه على رجعه لقادر يوم تبلى السرائر فما له من قوة ولا ناصر}..
إنه- الله الذي أنشأه ورعاه- إنه لقادر على رجعه إلى الحياة بعد الموت، وإلى التجدد بعد البلى، تشهد النشأة الأولى بقدرته، كما تشهد بتقديره وتدبيره. فهذه النشأة البالغة الدقة والحكمة تذهب كلها عبثا إذا لم تكن هناك رجعة لتختبر السرائر وتجزى جزاءها العادل: {يوم تبلى السرائر}.. السرائر المكنونة، المطوية على الأسرار المحجوبة.. يوم تبلى وتختبر، وتتكشف وتظهر كما ينفذ الطارق من خلال الظلام الساتر؛ وكما ينفذ الحافظ إلى النفس الملفعة بالسواتر! كذلك تبلى السرائر يوم يتجرد الإنسان من كل قوة ومن كل ناصر: {فما له من قوة ولا ناصر}.. ما له من قوة في ذاته، وما له من ناصر خارج ذاته.. والتكشف من كل ستر، مع التجرد من كل قوة، يضاعف شدة الموقف؛ ويلمس الحس لمسة عميقة التأثير. وهو ينتقل من الكون والنفس، إلى نشأة الإنسان ورحلته العجيبة، إلى نهاية المطاف هناك، حيث يتكشف ستره ويكشف سره، ويتجرد من القوة والنصير..
الدرس الرابع: 11- 14 القسم بالأرض والسماء على جدية حقيقة البعث:
ولعل طائفا من شك، أو بقية من ريب، تكون باقية في النفس، في أن هذا لابد كائن.. فمن ثم يجزم جزما بأن هذا القول هو القول الفصل، ويربط بين هذا القول وبين مشاهد الكون، كما صنع في مطلع السورة:
{والسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع إنه لقول فصل وما هو بالهزل}..
و{الرجع} المطر ترجع به السماء مرة بعد مرة، و{الصدع} النبت يشق الأرض وينبثق.. وهما يمثلان مشهدا للحياة في صورة من صورها. حياة النبات ونشأته الأولى: ماء يتدفق من السماء، ونبت ينبثق من الأرض.. أشبه شيء بالماء الدافق من الصلب والترائب؛ والجنين المنبثق من ظلمات الرحم. الحياة هي الحياة. والمشهد هو المشهد. والحركة هي الحركة.. نظام ثابت، وصنعة معلمة، تدل على الصانع. الذي لا يشبهه أحد لا في حقيقة الصنعة ولا في شكلها الظاهر!
وهو مشهد قريب الشبه بالطارق. النجم الثاقب. وهو يشق الحجب والستائر. كما أنه قريب الشبه بابتلاء السرائر وكشف السواتر.. صنعة واحدة تشير إلى الصانع!
يقسم الله بهذين الكائنين وهذين الحدثين: {السماء ذات الرجع}. {والأرض ذات الصدع}.. حيث يوقع مشهدهما وإيحاؤهما، كما يوحي جرس التعبير ذاته، بالشدة والنفاذ والجزم.. يقسم بأن هذا القول الذي يقرر الرجعة والابتلاء- أو بأن هذا القرآن عامة- هو القول الفصل الذي لا يتلبس به الهزل. القول الفصل الذي ينهي كل قول وكل جدل وكل شك وكل ريب. القول الذي ليس بعده قول. تشهد بهذا السماء ذات الرجع، والأرض ذات الصدع!
الدرس الخامس: 15- 17 تهديد الكفار بالعذاب القادم:
وفي ظل هذا القول الفصل بالرجعة والابتلاء يتجه الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو ومن معه من القلة المؤمنة في مكة يعانون من كيد المشركين ومؤامراتهم على الدعوة والمؤمنين بها- وقد كانوا في هم مقعد مقيم للكيد لها والتدبير ضدها وأخذ الطرق عليها وابتكار الوسائل في حربها- يتجه الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بالتثبيت والتطمين، وبالتهوين من أمر الكيد والكائدين. وأنه إلى حين. وأن المعركة بيده هو- سبحانه- وقيادته. فليصبر الرسول وليطمئن هو والمؤمنون:
{إِنَّهُمْ يكيدون كيداً (15) وَأَكِيدُ كيداً (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17)}
إنهم- هؤلاء الذين خلقوا من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب- بلا حول ولا قوة ولا قدرة ولا إرادة، ولا معرفة ولا هداية. والذين تولتهم يد القدرة في رحلتهم الطويلة. والذين هم صائرون إلى رجعة تبلى فيها السرائر، حيث لا قوة لهم ولا ناصر.. إنهم هؤلاء يكيدون كيدا..
وأنا- أنا المنشيء.. الهادي. الحافظ. الموجه. المعيد. المبتلي. القادر. القاهر. خالق السماء والطارق. وخالق الماء الدافق، والإنسان الناطق، وخالق السماء ذات الرجع، والأرض ذات الصدع.. أنا الله.. أكيد كيدا.
{إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا فمهل الكافرين أمهلهم رويدا}..
فهذا كيد. وهذا كيد. وهذه هي المعركة... ذات طرف واحد في الحقيقة.. وإن صورت ذات طرفين لمجرد السخرية والهزء!
{فمهل الكافرين}.. {أمهلهم رويدا}.. لا تعجل. ولا تستبطئ نهاية المعركة. وقد رأيت طبيعتها وحقيقتها.. فإنما هي الحكمة وراء الإمهال. الإمهال قليلا.. وهو قليل حتى لو استغرق عمر الحياة الدنيا. فما هو عمر الحياة الدنيا إلى جانب تلك الآباد المجهولة المدى؟
ونلحظ في التعبير الإيناس الإلهي للرسول: {فمهل الكافرين أمهلهم رويدا}.. كأنه هو صلى الله عليه وسلم صاحب الأمر، وصاحب الإذن، وكأنه هو الذي يأذن بإمهالهم. أو يوافق على إمهالهم. وليس من هذا كله شيء للرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو الإيناس والود في هذا الموضع الذي تنسم نسائم الرحمة على قلبه صلى الله عليه وسلم الإيناس الذي يخلط بين رغبة نفسه وإرادة ربه. ويشركه في الأمر كأن له فيه شيئا. ويرفع الفوارق والحواجز بينه وبين الساحة الإلهية التي يقضى فيها الأمر ويبرم.. وكأنما يقول له ربه: إنك مأذون فيهم. ولكن أمهلهم. أمهلهم رويدا.. فهو الود العطوف والإيناس اللطيف. يمسح على الكرب والشدة والعناء والكيد، فتنمحي كلها وتذوب.. ويبقى العطف الودود.. اهـ.